و بالقَصر ذاك ,
تحديداً في الطابق الثالثْ و ( المترفّع ) ..
تحتلُ إحدى زواياه النائية ..
غرفة مهجورة ,
رائحتها ورد ياسمين مستميلٌ بذبولٍ يدل على موته ..
ذابلٌ ميّت , و يطيبُ عبيراً ؟
ممزوجٍ برذاذ تربة الغبار التي تفوح أكثر من الياسمين ..
ذاك المزيج الذي يزكم الأنوف .. غبار و ياسمين !
كيفَ للونِ الورديّ الهادئ أن يجتمع مع ذاك البنّي الداكن !
ههَ !
نسيت بأن أخبرك ..
في هذا القصر ..
توقع كُل شئٍ ياعزيزيْ ..
فـ من المعتاد بأن ترى الأضداد تترادف , و المتناقضات تتشابه !
لا بأس في هذا ..
و في هذهِ الحجرة بالذاتْ ..
حيث الكرسيّ الذي يهزّ مراراً , بالرغم من تلك الشبابيك الموصدةٍ في وجه الريح العنيد ..
و حيث الساعة الرملية التي أستحال رملها إلى طينٍ ملتصقٍ لايمرّر الوقتْ !
و طرف الريشة المرميّة فيْ علبةٍ مغمورةٍ بحبرٍ أزرق رديء مازال رطباً !
ألحفةُ السرير سُكريّة اللون و مخدّتهِ التيْ حُفِرَ وسطُهآ إثَر رأسٍ قد ألقى فيهِ عليها صاحبهُ ذاتَ أرق !
و سراجٌ يتدلى من إحدَى جدرانهآ يخبو و يستضيء رغماً عن أنفِ ذاك الكيروسين الذي فرِغَ !
أقداح شاي البابونج المتكركبة على طاولةٍ خشبيّـةٍ تساقط من حولها كرسيّينْ متناثرةً أجزائهما وَ متكسّرة ..
و صوت فيروز الثقيل المتخم بالأوجاع المحببّة .. يصدح كُل إشراقةِ شمسِ من مذياعٍ يعملُ على أشعتهآ فلا يصمت !
دولابٌ فارغ تماماً بالرغم من رفوفهِ الكثيرَة .. إلّا من صندوقٍ يلتحف اللون السماويّ ..
و تتوزع عليه ورودٌ تشبه ذاك الياسمين مشبعةً بالأحمر الداكن ..
مرآة كبيرة بيضاويّة الشكلْ .. تقابلها طاولة مملوءة بأشياء أنثويّة .. أبرزها أحمر شفاهٍ بلونِ الخوخ قد تقشفّ وَ جفّ ..
لا ترفع إحدى حاجبيك إستنكاراً !!
فلم نبدأ بعد و نخوضْ في وصف تلك الأعجوبة الثآمنة !
الأشياء كلها في هذهِ الغرفة تختلفْ ; فهي تبكيْ و تنوح و تتوجّع فقداً و تحيط بها هالة رماديّـة قاتمة تدل على عزاء تلك الأشياء لمن فقدَت ..
فالحياة لم تدبّ فيها منذ تسعِ وعشرين سنة و إحدى عشر شهراً و ثلاثين يوم وبضع ساعات !
و كيفَ لها أن تدبْ و صاحبتها قد أوصدتْ بابها وَ أخمَدتْ صريرهُ
بلا رجوع ..
إن في كُل حجرةٍ و رواقٍ و زاويةٍ في هذا القصر قد حُكِي عنهآ بحكايةٍ تميلُ منها أفواه المستمعين إمتعاضاً !
غداً سيبدأ العام الثلاثين !
بدونِ صاحبته ..
و بدونِ قهوةٍ فجريةٍ يتراقص بخارها مع رذاذِ أمطار المزن الحاتميّة الندى ..
بدونِ ضحكاتها الهادئة التي تولد من فرجة ثغرها الواسعة ..
بدون تمتمات مراهقتها الهامسة بسخطٍ على من ضايقها ..
و بدون بكائها المكتومْ في خنقةِ ليلٍ لا ينتهيْ ..
بدون حياة !
و بدون يومٍ يمُر ..
فـ العيش في هذهِ الغرفة يعتبر موتاً .. فـ كيف يكون العيش مميت ؟
غداً سيبدأ الثلآثون عاماً من اللاشيء ..
حيث تلك الحسناءْ السرمديّـة العذابْ ..
قد عاشت نصف هذه الأعوام .. و تسلّقت روحهآ أعنّـة السماوات السبع بلآ عودَة ..
فـ رحمةً مِن أرحم الراحمين تتبارك عليها وَ تحفّها بأمانِ العزيز سبحانه إلى يوم يبعثون ..
* شمس الجطيلي .
.